يوسف جاد الحق
يتردد في جنبات صالة الانتظار صوت المذيعة معلناً عن قيام الطائرة التي سوف تقلنا إلى دمشق بعد نصف ساعة من تلك اللحظة.
وأخذنا نرقبها من وراء الزجاج، وبه تدرج متهادية أمام بوابات الخروج، إلى أنّ توقفت، وكفت محركاتها عن الهدير الذي يصم الآذان ويدخل الرهبة إلى القلوب. انهمك المسافرون في تفقد حاجياتهم، ولملمة أشيائهم وحقائبهم. والنظر في أوراقهم: جوازات سفر، تذاكر، تصاريح للتأكد من سلامتها، إلى أن فاجأنا صوت المذيعة من جديد، يعلن هادئاً مستقراً.. وجميلاً أيضاً. بموسيقاه ونغماته المدروسة عن تأخير للموعد لأسباب طارئة..!
أثار ذلك غمغمة، ثمّ تساؤلات بين المسافرين الذين اقترب بعضهم من بعض، كأنما وحَّدهم خوف غامض بدا على الوجوه والحركات العصبية للأيدي والرؤوس، لاسيما بعد أن تجمع عدد من الرجال تحت جناح الطائرة لينهمكوا في النقاش حول أمر ما، لابدّ أنّ الطائرة معطلة، إذ كانوا يشيرون إلى محركاتها، ثمّ إلى أوراق في أيديهم وخرائط. ثمّ ما لبث أن انبى عدد من العمال، ذوي الملابس الزرقاء، فاعتلوا سُلَّماً نصب تحت أحد محركاتها وأخذوا يعملون فيه أدواتهم.
تلفت، إلى رجل يرقب المشهد مثلي، متسائلاً في شيء من القلق، جهدت ألا أظهره:
- ماذا؟ هل بالطائرة عطب يصلحونه؟
رد الرجل باقتضاب:
- يبدو أنّ الأمر كذلك.
قلت في مزيج من الدهشة والخوف معاً:
- وهل يجب علينا أن نسافر بهذه الطائرة التي يصلحونها تحديداً؟
قال:
- طبعاً... ولكنهم سيصلحونها أوّلاً...!
- صحيح، ولكن من يضمن أنهم أصلحوها فعلاً؟ كم من مرة أصلحت سيارتي، وعقب مغادرتي (الورشة) وجدتها أسوأ مما كانت عليه قبل إصلاحها، لتتوقف في عرض الطريق... ولكنها سيارة تتعطل فتقف... لكن على الأرض... وليس بين الأرض والسماء!
ضحك الرجل، وكأنّه يريد التلاعب بأعصابي... ليقول
- وماذا نصنع؟ أمرنا كله إلى الله الآن.
تذكرت بغتة ما كان يردده صديقي (رجب) قبيل سفري بأيام، عن أخطار السفر بالطائرة، والصدف العجيبة التي تجعل من برغي صغير، في موضع منها، سبباً في موت محقق لمن هم على متنها. وهل هي مصادفة – تساءلت – أنّه قال يومئذ، في معابثته الثقيلة: الطائرات لا أمان لها، يا صديقي. وأنت إن نجوت في الذهاب، فقد لا يسعفك الحظ في الإياب..! وما كل مرة تسلم الجرة.. بل طفق يغني (آه يا خوفي من آخر المشوار... آه يا عيني) لعله آخر المشاوير بحق..! وإذا سقطت بنا في البحر فأنا لا أجيد السباحة. وعلى فرض أنني حاولت بدافع التشبث بالحياة، فالبرد شديد، هذه الأيام. تذكرت في هذه اللحظة أيضاً، حلماً رأيته البارحة.. فوق جناح طائر يمخر بي الفضاء إلى جهة كونية مجهولة... فراغ لا نهائي... لا أرض ولا سماء... أبحث عن إنسان آنس إليه دون جدوى... وحوش كاسرة مخيفة تحاول التهامي. صحوت في الوقت المناسب قبل أن أغدو لقمة سائغة لها.! ما معنى ذلك؟ الآن أدرك تفسير ذلك الحلم. لقد دنت آخرتك أيها المكابر، بعد أن أضعت عمرك هباء، في عبث صبياني عقيم. وددت لو أني لم أكذب في حياتي مرة واحدة، بل ليتني لم أتشاجر قبيل سفري مع جارنا (أبو مفلح). كان حرياً بي أن أجنح إلى المسالمة لأفيد الآن من عدد لا بأس به من الحسنات. تراءت لي أخطائي مجسَّمة... وكثيرة لا يحصيها عدّ. بل إنها لكذلك. (الاعتراف فضيلة يثاب عليها المرء بعدد من القصور في الجنة، صحيح أن قصراً واحداً يكفي إذن لن أقطن في أكثر من قصر واحد في الوقت الواحد، كما أنني لن أستطيع تأجير القصور الأخرى... ولكن لا بأس زيادة الخير خير... كما يقولون على الأرض). تذكرت السكرتيرة (ليلى) التي سوف تبكي بحرقة نادبة حظها هي وليس حزناً من أجلي. فلقد وعدتها بالزواج قبيل سفري بأيام. وافقت ليلى رغم أني متزوج. لم أكن صادقاً حينئذ. وهي الآن سوف تتهمني بالكذب والخداع، وسترى بأني مت عمداً كيلا أتزوج منها...؟
ولكن... هاهم يبتعدون عن الطائرة. ثمّ يعلو هدير محركاتها... تتحرك... تدور حول نفسها. هديرها يهز أرجاء القاعة، والهواء أسفل محركاتها يندفع كالعاصفة جارفاً معه كميات من الأتربة وبقايا الورق الممزق.
انطلق صوت المذيعة هادئاً مطمئناً منغماً، ليعلن أن علينا التوجه إلى البوابة رقم ثلاثة، سنستقل هذه الطائرة إذن...! لقد كرهت مرآها... ناهيك عن ركوبها. بل أمسيت أحس نحوها عداءً لا يشبهه إلا عدائي للعدو الجاثم على أرضنا. نمضي الهوينا باتجاهها كأنما نساق إلى الموت، جمع غفير من الرجال والنساء، على أيديهنّ أو بين أرجلهنّ عددٌ من الأطفال. لا أكون صادقاً إذا قلت لك الآن أنني أعرف كيف وصلت إلى تلك الطائرة. كل ما في الأمر هو أنني وجدت نفسي عند سلَّمها. هل حملني أحد إليها حملاً؟ هل مشيت إليها على قدميّ أم نقلني إليها (الميكروباص) علم ذلك عند علام الغيوب..؟
وفيما كنت أنتظر دوري في الصعود إليها (إلى الهاوية) رحت أتفحَّص هيكلها متسائلاً: ما الذي يمكن أن يرفع هذا الجبل الهائل إلى الفضاء، محملاً أيضاً بالحقائب والأشياء ومئات من البشر؟ طفقت أنظر إليها بحذر وتوجس، كأني بها تعدُّ لنا كميناً. أو كأنّها تتربص لتقذف بنا، عما قليل، من فوق ظهرها، أو لتغوص بنا في لجّة البحر وغوره السحيق.
لا أذيع سراً إذا قلت أيضاً أنني حاولت جاهداً التذرُّع بسبب، أو اختلاق وسيلة للتخلف عن هذه الرحلة المكنودة. وبعدها – هكذا آليت على نفسي – ألا أسافر إلا على متن باخرة أو سيارة، أو حتى سيراً على الأقدام... فالموت هو الموت... وأي شيء عداه يهون. ولكن مَن خلفي دفعني لأصبح فوق السلم، أصعده في حركات ميكانيكية بطيئة، كالإنسان الآلي تماماً...!
استقر بي المقام فوق مقعد حرصت على أن يكون بعيداً عن النافذة، كيلا أرى بعيني مصيرنا المرتقب عندما تحين الساعة. تلازمني فكرة، أن برغياً (غادراً) سوف يفلت من مكانه، أو أن سلكاً كهربائياً (حاقداً) سوف ينقطع لكي يتوقف المحرك... ومن ثمّ... فهؤلاء الذين قاموا بإصلاحها على عجل، ربما كان أحدهم مهملاً بطبعه، أو يعمل تحت التدريب. ربما تشاجر مع زوجته قبل مجيئه إلى العمل.. أو ربما هي وضعت مولودها العاشر، والرجل يفكر في معجزة تأمين حاجاتها وحاجاته (أعني رضيعها). احتمالات كثيرة واردة... تفضي إلى النتيجة ذاتها!
هدرت المحركات أعنف من ذي قبل. اهتزت الطائرة من أخمص عجلاتها حتى قمة ساريتها. ثمّ تحركت على المدرج. في تؤدة، قبل أن تتصاعد سرعتها عليه. ثمّ ما لبث أن ارتفعت في الجو في الوقت الذي غاص قلبي هبوطاً خَفَت الصوت قليلاً، واستقرت الطائرة فوق الهواء فتبدد الاهتزاز. كانت الساعة السابعة، والظلام يلف الكون، إلا من نجوم تناثرت في السماء، وأضواء (كالنجوم) على الأرض البعيدة. أعجبني المشهد الساحر، فأوشك أن ينسيني مخاوفي، لولا أن جيباً هوائياً (هكذا يطلقون عليه) جعل الطائرة تهوي، ليهوي قلبي معها، ويقف شعر رأسي، قبل أن تعود إلى التوازن من جديد. ألَمَّ بي ما يشبه اليأس (لن تمضي هذه الرحلة على خير. بل لماذا جئت أنا إلى القاهرة؟ عمل؟ وأي مكسب مادي يعدل مخاطرتك بحياتك أيها الأحمق؟ سياحة؟ نزهة؟ وهل تساوي النزهات مثل هذه المغامرة أليس خيراً لك لو كنت الآن في مكتبك بشارع الحمراء... ليلى تقدم لك الشاي... تبتسم... تنفر خارجة إثر دعابة منك حتى لو كانت سمجة، وهي تضحك في جذل مثير...؟
بيد أن ذلك لم يمنع أن أطمئن نفسي، وأنا اخترع تفسيراً من عندي للآية الكريمة.. (... وما تدري نفس بأي أرض تموت) أجل فحيث أننا في الفضاء، فمن المستبعد إذن أن تموت هنا حيث لا أرض. ولكن هذه الفكرة سرعان ما تبددت، إذ تذكرت حوادث الطيران الكثيرة التي يقضي الناس فيها نحبهم... في الفضاء أيضاً... وبمناسبة الفضاء تذكرت (تشالنجر) وروّادها الثلاثة... كما تذكرت قادة الطائرات الحربية... هؤلاء جميعاً لا يموتون على الأرض...!
ألقيت نظرة إلى الأفق، من النافذة الملاصقة لمقعد جاري، الذي مضى يغط في نوم عميق هانئ، حسدته عليه حقاً. اجتاحني ذعر شديد، إذ اتفق أن حدث ذلك عند إعلان قبطان الطائرة بأننا نطير على ارتفاع عشرين ألف قدم. قدم؟ لماذا لا يريحنا هؤلاء من حساب الأقدام فيحولونها إلي أمتار؟ لكنهم الانكليز... لعنة الله على الانكليز... مصائبنا جميعها كانت بسببهم...!
همِّي الأوحد أصبح الآن أن أعرف – لحظة السقوط المحتم – هل سوف تتطاير أشلاؤننا في الفضاء... نتبدد في الهواء... أم سيبقى واحدنا قطعة واحدة... أم... أم؟
شرعت أطلب من الله المغفرة لما اقترفت من ذنوب في سالف عمري.. أقسمت أن أغدو من أكثر عباد الله صلاحاً وتقوى لو حدثت المعجزة ونجوت فور أن تطأ قدماي (الأرض) – يا لهذه الكلمة ما أحلاها هنا – سأعمد إلى توزيع ما أملك، قليلاً كان أو كثيراً، على الفقراء والمعدمين... أصوم السنة بأكملها، لا رمضان وحسب... أجعل من ليلي ونهاري عبادة خالصة. ولن أقدم على فعل شيء، قط، يغضب الله والعباد...!
اجتازت الطائرة مدينة بور سعيد، مخلفة وراءها أضواءها، وباتت فوق البحر المظلم الرهيب. حلا لهم عندئذ، أن يقدموا لنا طعام العشاء. شرعت المضيفتان تقدمانه لكل منا مشفوعاً بابتسامة عذبة، توشك أن تنسيك ما أنت فيه من كرْب. تقترب منك، يتضوع عطر شعرها الذي يوشك أن يلامس وجهك، ليأخذك إلى حلم جميل. تسكب الشاي من إبريق فضي أنيق، بعد أن تخيرّك بينه وبين أشياء أخرى، فيما أنت تتأمل تنورتها القصيرة الضيقة، بلونها الكحلي البديع، تنحسر عن ساقين تشعان بهاءً وفوراناً. ولولا هذا الذي نحن فيه لتمنَّيتُ أن تطول الرحلة إلى ما لا نهاية.
بغتة أخذ المحرك يصدر أزيزاً وأصواتاً مخيفة. خيّم الصمت على الركاب الذين سبق لهم أن راحوا يتبادلون الأحاديث، عندما أحسوا بالاطمئنان، عقب استقرار الطائرة في الجو. بدا على المضيفتين أنهما تحاولان (ضبط النفس) وكتمان مخاوفهما، بل والإيحاء بالطمأنينة، (لأن كل شيء على ما يرام). بيد أن أحداً لم يصدق، لاسيما السيدات. طفق العرق ينساب على جبيني، فيما أذناي تدويان، وكأنّهما أغلقتا تماماً. خيّل إليّ أنّ المراوح قد توقفت والمحركات تعطلت فتشهدت... (وآه يا خوفي من آخر المشوار... جنة ولانار... آه يا عيني...!) عليك اللعنة أنت الآن في سريرك تتصفح مجلة، أو في مقهى الحجاز – لأنك لا تحب القراءة – تلعب الطاولة، فيما نحن هنا أمام مصيرنا المحتوم، في هذه البقعة المجهولة من الكون... وجهاً لوجه مع الموت...!
أنظر من النافذة متخطياً جاري النائم سعيداً، لأتحقق من أنني مخطئ... لم اتمنّ يوماً أن أكون مخطئاً قدر ما أتمنى الآن. الظلمة تلف الكون... وبحر الظلمات على الأرض، كما في السماء، ظلام في ظلام... نمخره في هذا المركب التائه. استسلمت في يأس (الموت على أيّة حال هو نهاية كل حي).. وهو عند حلوله، لا فرق بين من عاش آلاف السنين وبين من يموت هذه الساعة... مثلنا..! موسيقى تضج في رأسي والصوت الساحر... لقد تساوى في الثرى راحل غداً/ وماضٍ من ألوف السنين... الله... الله يا ست...! ثلاثتهم قضوا أيضاً من غنَّى ومن لحّن ومن كتب، دون أن يكونوا ركاب طائرة... ألن يدركنا الموت ولو كنا في بروج مشيدة وليس في هذه الطائرة؟ فلم هذا الخوف كله؟ وماذا في الموت يا هذا...؟ الحياة كما يقول جارنا (أبو منذر) حتى دون أن يجد نفسه في مثل هذا الموقف الباعث على التفكير الفلسفي، هي أننا نكدّ ونشقى، ننام ونصحو... نتشاجر ونتصالح – مع زوجاتنا على وجه الخصوص – نجوع ونأكل... نكرِّر ذلك مدى عمرنا بلا معنى أو جدوى تذكر... حلقة مفرغة ندور فيها على كره، كثور الساقية، سلسلة من التفاهات اليومية لا حصر لها. سيّان، إذن، انقضاؤها الآن، أو بعد حين... الفرق؟ وماذا أمامنا في المستقبل – لو كتب لنا عمر... (يا رب)... – سوى هذا...؟
(صدق أبو منذر) فالموت خير وأبقى... وهو الحقيقة الوحيدة الثابتة. وليقال عنا في برقيات التعزية وإعلانات الصحف: (المأسوف على شبابه...!) فهذا أوقع في نفوس الذين يعرفوننا، من قولهم: (عن عمر يناهز المئة... قضاها في البر والإحسان). لا سيما أنهم يعرفون أنهم يقولون هذا حتى لو لم يكن المتوفى باراً ولا محسناً...!
بدأت تثير غيظي أكثر من أي شيء آخر، تلك الابتسامة المصنوعة على شفتي كل من المضيفتين. كان واضحاً أن أياً منهما لا تبتسم. لكن ذلك آلمني أيضاً، إذ كيف تملك فتاة روعها، وتضبط أعصابها، في مثل هذا الموقف، فلا يظهر عليها الخوف كما هو باد عليَّ الآن؟ أليس هذا مثيراً للسخط؟ إن لم يكن للإحساس بالمهانة؟ الأولاد... الزوجة رغم كل حماقاتها، لا شك أنها أكثر تعقلاً مني، وأقل حماقة، فهي لم تضع نفسها يوماً، على الأقل، في مثل هذا المأزق...! خلتها الآن وديعة، ذات مزايا جمّة، لم أقدرها حق قدرها في الأوقات المناسبة الغابرة... تالله لأعوضنَّها عن ذلك كلِّه إذا... آه... والأولاد أيضاً. سأسمح لزهير بالزواج من تلك الفتاة ابنة القباقيبي. وماذا في أن تكون (كنّتي) ابنة قباقيبي؟ ألسنا جميعاً أولاد آدم حواء؟ ثمّ إن القباقيب ذات نفع عام، ولها دور لا ينكر في شؤون المنزل... أما الولد الآخر الذي رسب في البكالوريا... يرسب يا سيدي... المهم أن يعيش ولا تسقط به طائرة...! صحيح أن أترابه هناك يستشهدون ولكن هذا موضوع آخر...!
لاحت عن بعد عبر نافذة رفيقي الذي مازال نائماً، أضواء وسط الظلام الأرضي الدامس. ما لبثت أن أخذت الأضواء تتكاثر، شيئاً فشيئاً، تغيَّر صوت المحركات بغتة. ارتفع أوّلاً هدير مرعب، ثمّ انخفض بغتة أيضاً واستقر. بدأت الطائرة تميل نحو اليمين لبرهة، ثمّ تعود وتميل نحو اليسار، لبرهة أخرى، ثمّ تستوي. لعلها اقتربت من دمشق. أكثر من نور أحمر في أماكن متباعدة، يومض تباعاً، أضواء خافتة تومض في كل اتجاه. ربما كانت بيوتاً من البساتين المترامية الأطراف حول المدينة. إنها الغوطة... سأمضي يوماً بأكمله متجولاً بين جنّاتها...!
انطلق صوت القبطان، فيما مرّت المضيفتان، واحدة إثر الأخرى برشاقة ساحرة تنبهت إليها رغم ما أنا فيه، يقول:
... أيّها السادة. نقترب من مطار دمشق. اربطوا الأحزمة. لا يتحرك، منكم أحد قبل توقف المحركات نهائياً ممنوع التدخين... وشكراً... (ليديز آند جنتلمن...!)
كدت أهتف بأعلى صوتي: على عيني... على رأسي... سأفعل... لن أدخن. سأنفذ كل ما تصدره إلينا من تعليمات... المهم أن تهبط بنا بسلام أيها (الكابتن) الفذ.!
وحين اقتربت المضيفة لتتأكد من أني قد ربطت حزامي جيِّداً... هممت أن أعانقها فرحاً، لولا نظرتها المحذِّرة، مشفوعة بتلك الابتسامة المخدِّرة، تنساب عن شفتيها القرمزيتين، فيما يتضوع عطرها الساحر أخّاذاً منعشاً باعثاً على الرغبة في الحياة...؟!
وفيما أهبط سلم الطائرة، محاولاً النزول قبل غيري فاتحاً صدري للهواء البارد، يترقرق في أرض المطار، وطَّدت نفسي على أن أحدث الزوجة والأولاد، والأصدقاء أيضاً، عن تجربتي في رحلة الأخطار الجسيمة هذه، وعن ذلك القدر من الشجاعة الذي اكتشفته في نفسي، بمواجهتها مؤكداً لهم أنّ الخوف لم يراودني قط فيما أوشك الآخرون على متنها أن يقضوا نحبهم خوفاً وجزعاً...!
لكنهم، وفيما نحن نتناول إفطارنا، في الصباح، أخذوا ينظر بعضهم إلى بعضن مشيرين إلى خصلات شعر بيضاء تناثرت في أرجاء مختلفة من رأسي، لم تكن هناك، منذ أيام، قبل سفري...!
*روائي وقاص فلسطيني
ارسال التعليق